بسم الله الرحمن الرحيم
إن الداء الأكبر الذي استشرى في زمننا هذا وأدى إلى ظهور تناقضات كثيرة هو غياب سنَّة الحوار والاختلاف بين المتحاورين فلهذا الحوار ضوابط تعصم المتحاورين من الغلو وشتم الآخرين إن كان الحق هو الرائد والمطلوب .
أما إذا كان الخلافُ انتصاراً لأهواء سياسية وتعصباً أعمى فهذا أمـر لا ينفع معه أي قواعد أو ضوابط ، إذ إن الهوى ليس له ضوابط ولا موازين فإن كثيراً من الأمور الخلافية سبقنا إليها أئمة من ذوي الرواية والرؤية ولا ينبغي أن يُعيب مجتهدٌ على مجتهدٍ .
فغياب أسس ومناهج الحوار أوقعنا فيما نحن فيه ، ولا أحسب أن أسس ومناهج الحوار قد نالت حـظـاً وافراً من الاهتمام في مدارسنا وجامعاتنا أوحتى بين الآباء والأبناء والزوج والزوجة ، مما جعل الحوار بين المتحاورين حِوار طرشان ونشأ عن ذلك ما نراه اليوم من فتنٍ وتيارات مختلفة متنافرة فيختلفون حيث لا اختلاف وقد ينزلقون وهم يعتقدون أنهم مصلحون وإنما هم في الواقع مفسدون فأي حوار لابد له من أهدافٍ تضمن سيره في الطريق الصحيح .
أولها إقامة الحجة ودفع الشبهة من القول والرأي ثم أن الحوار الهادئ مفتاح للقلوب المغلقة وطريق للنفوس السوية ومن ثمراته تضيق هوة الخلاف وتقريب وجهات النظر وإيجاد حـلٍ وسـطٍ يرضي الأطراف في زمنٍ كثر فيه التباغض والتناحر ثم كشف الشبهات والرد على الأباطيل لإظهار الحق وإزهاق الباطل .
ولطبط مســار الحوار لابد من الوصول للحق المستبين لتحديد هذه القضية ثم الاتفاق على أصلٍ يُرجع إليه ويجب عدم مناقشة الفروع قبل الاتفاق على الأصول ، ثم إن هناك آداب تتعلق بنفسية وشخصية المحاور وهناك ظروف نفسية قد تطرأ على الحوار فتؤثر فيه تأثيراً سـلبياً .
لذا ينبغي مراعاة ذلك حتى يحقق الحوار غايته المرجوة منه ليؤدي ثمراته وينبغي التقديم للحوار بكلماتٍ مناسبةٍ ومقدماتٍ لطيفة تلفت انتباه الطرف الآخر ويجب أن يبتعد المناظر عدم الظهور على الخصم والتفوق عليه والانتصار للنفس وانتزاع الإعجاب والثناء ، قال الشافعي يرحمه الله :
مـا نـا ظــرت أحــداً إلاَّ تـمـنـيـت لو أن الله أظـهـر الحق على لســـــــــــــانه
ومن المبادئ الأساسية في الحوار العدل والإنصاف والتزام الأدب وحسن الخلق عموماً والتواضع على وجه الخصوص حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ومــا تـواضع أحــدٌ لله إلاَّ رفــعــه
وعلى المحاور أن يكونَ حليماً صـبوراً لا يغضب لأتفه الأسباب ولا ينفر لأدنى أمـــــــر ولا يستفز بأصغر كلمة وأن يحرص على الشفقةِ بالخصـم ويخاف عليه من الإعراض والمكابرة فالرحمة والشفقة أدب مهم في الحوار لأن المحاور يسعى لهداية الآخرين واستقامتهم لذلك يبتعد عن كل معاني القسوة والغلظة والفظاظة والشدة فلا يكون الحوارُ فرصةً للكيد والانتقام أو وسيلة لتنفيس الأحقاد وطريقة لإظهار الغل والحســـــد ونشر العداوة والبغضاء .فكان أنبياء الله في حوارهم مع أقوامهم يصرحون بالخوف والحرص والشفقة عليهم ولابد للمحاور الناجح أن يتقن فن الاستماع فكما وأن للكلام فناً وأدباً فكذلك للإستماع أدب .
ومما ينافي هذا الأدب مقاطعة كلام الطرف الآخـر وحسن الإنصات يهيئ الآخر لقبول الحق ويمهد للرجوع عن الخطأ .
كذلك لا يجوز أن يؤدي الخلاف بين المتناظرين الصادقين إلى التباغض والتقاطع والتشاحن والتدابر ، فهذان الخليفلن أبوبكر الصديق وعمر بن الخطاب اختلفا في أمورٍ كثيرة وقضايا متعددة ولكن بقيت الألفة والمحبة ودوام الأخوة والمودة بينهما .
ومن آداب الحوار العلمية العلم والبدء بالنقاط المشتركة وتحديد مواضيع الاتفاق ثم التدرج والبدء بالأهم ثم إيراد الدليل وكما قيل :/
إن كنت ناقلاً فالصحة ، أومدعياً فالدليل
ثم ضرب الأمثلة للتوضيح لأنها وسيلةٌ لإقناع المحاور ثم التجرد للحق والصدق والوضوح ، والعاقل هو الذي يُسلم بخطئه ويعود للصواب إذا بان له ويفرح بظهوره ويشكر لصاحبه إرشاده ودلالته إليه وعلى المحاور أن يتجنبَ أسلوب الإفحام والإسكات لأنه يترك في نفس المحاور حقداً وغيظاً وكراهية .
تلك هي أدب أو آداب الحوار بين المتحاورين ولعلني من هذا المنبر أطلب وأتمنى على المشتغلين بالمناهج الدراسية أن يقرروا في مناهجهم الدراسية مادة جديدة اسمها أدب الحوار ويعلموها لأبنائهم وبناتهم في مدارسهم ومعاهدهم وكلياتهم وساعتها ننتظر الخير على آيادي هؤلاء الفتية والفتيات حتى نحقق التقدم والتنمية لمجتمعنا العربي والإسلامي حتى نعود لسالف عصور التقدم والازدهار التي كنا عليها .
خالص تحياتي ومودتي .