ما أحوجنا إلى دراسة السيرة النبوية دراسة جادة ، وتحقيق مروياتها ، وتنقيتها ، والتمعن فيها ، وربطها بالواقع ، واستلهام الدروس والعبر منها ؛ فليست سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم وسنته مجرد أحداث وقصص وقعت وانتهت ، تقرأ للتسلية ، أو التبرك أو للمعرفة ! بل الأمر أكبر من ذلك ؛ فقد حفظها الله لنا لتكون لنا نورًا نستضيء به ، ودربًا نسير عليه ، ونطبقه في واقعنا ؛ فالقرآن والسنة هما منهج حياة كاملة مثالية حتى قيام الساعة .
وهذه دعوة أوجهها لعلمائنا وطلبة العلم والدعاة : للعمل على تبين فقه القرآن والسنة كما أراد الله ـ عز وجل ـ فحياة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من بعثته حتى وفاته في جميع شؤنه تعتبر الحياة المثالية والقدوة الحسنة للمسلمين جميعـًا من رجال ونساء ، وحكام ومحكومين ، وقد أمرنا ربنا ـ عز وجل ـ أن نقتدي به فقال تعالى : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا )(الأحزاب/21) . وسنته وطريقه هي الصراط المستقيم والسبيل الوحيد الذي يجب أن يتبع لتحقيق العبودية لله وللفوز بجنته والنجاة من عذابه ، وأن ما عداه من طرق وسبل هي ضلال وافتراق عن الحق كما قال ـ جل وعلا ـ : ( وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ) ( الأنعام/153) ، وهذا الموضوع لإلقاء الضوء باختصار على كيد اليهود لهذا الدين منذ أول أمره ، ولبيان نقضهم للعهود التي أبرموها مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وكيف عاملهم عليه الصلاة والسلام ، ولا أريد أن أتطرق لتاريخهم الأسود وخستهم وكفرهم وفجورهم ؛ فهذا موضوع طويل ؛ ولكن أردت أن أؤكد كذب ما يصرح به اليهود وأذنابهم ، وما تبثه وسائل الإعلام هذه الأيام حول دعاوى
السلام معهم ، كما أؤكد أن اليهود لا عهد لهم ولا ذمة وأن يهود الأمس هم يهود اليوم ، وهم يهود الغد ، وكما غدروا بنبينا صلى الله عليه وسلم ؛ فإن ما يحدث اليوم هو لعبة من ألاعيبهم ؛ كيف لا وهم أشد الناس عداوة للمؤمنين ، ولن يرضوا عنا إلا إذا اتبعنا ملتهم ، كما أؤكد أن الحل معهم إنما هو إعداد العدة لهم وقتالهم وجهادهم وتطهير الأرض منهم ؛ وهذا ما أخبر به صلى الله عليه وسلم بقوله : [ لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود ، فيقتلهم المسلمون ، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول : يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعالى فاقتله ؛ إلا الغرقد ؛ فإنه من شجر اليهود ] (رواه البخاري ، كتاب الجهاد ، باب قتال اليهود ، ومسلم كتاب الفتن وأشراط الساعة ) ، ونحن موقنون بذلك ، وهذا ما نؤمن به ونعتقده .
لايقاتلونكم إلا من وراء جدر
معاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم مع اليهود :
بعد أن هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وبعد أن أقام قواعد المجتمع الإسلامي الجديد ، ووضع أسس الوحدة العقائدية والسياسة والنظامية بين المسلمين ، رأى صلى الله عليه وسلم أن يقوم بتنظيم العلاقة بمن يسكنون المدينة ومن حولها من غير المسلمين ، وكان همه صلى الله عليه وسلم هو توفير الأمن والسلام لهذه الجماعة المسلمة الناشئة والدولة الفتية .
وأقرب من يسكن المدينة ويجاورها هم اليهود ، فاتصل صلى الله عليه وسلم بواسطة عبد الله بن سلام رضي الله عنه ، وهو أحد أحبار اليهود السابقين والذي أسلم وحسن إسلامه ، فدعا اليهود إلى الدخول بهذا الدين والإقرار أنه النبي المنتظر الذي يجدونه مكتوبـًا في كتبهم ؛ ولكنهم أبوا ورفضوا وعاندوا حسـدًا من عند أنفسهم ؛ فعند ذلك عقد الرسول صلى الله عليه وسلم معهم معاهدة وكان أهم بنودها :
1 - أن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين ، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم .
2 - أن على اليهود نفقتهم ، وعلى المسلمين نفقتهم .
3 - أن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة .
4 - أن بينهم النصح والنصيحة والبر دون إثم .
5 - أن النصر للمظلوم .
6 - أن اليهود لا يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين .
وهنا وقفة مع هذه المعاهدة وهي إظهار العزة للمسلمين ، وأن المرجع عند الاشتجار إلى الله ورسوله ؛ وأن ليس في بنودها أي ضرر يترتب على اليهود بعكس معاهدة الاستسلام المسماة بمعاهدة السلام التي وقعت بين اليهود ومنظمة التحرير الفلسطينية ، والتي جل بنودها ضرر وظلم وذلة للمسلمين ، وعز ونصر لليهود ؛ فالمرجع في تفسيرها إليهم ، وهم الذين يقررون ما يريدون ؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله .
اليهود يهددون والرسول صلى الله عليه وسلم يحذرهم :
بعد هذه المعاهدة التي عقدها الرسول صلى الله عليه وسلم مع اليهود حرص كل الحرص على تنفيذها ، ولكن اليهود الذين يحفل تاريخهم بالغدر والخيانة والمؤامرة عملوا على التحريش وإثارة الفتن ، وما أن انقضت السنة الأولى من الهجرة النبوة ولاح في الأفق ظهور الإسلام وعزة أهله حتى نجم النفاق وأخذ المنافقون في التحزب مع اليهود والمشركين والتكتل ضد الإسلام والمسلمين .
اقتلوا كل العرب ، هذا مايكتبه اليهود
وظهر ذلك جليـًا بعد معركة بدر التي أعز الله بها دينه ونصر نبيه صلى الله عليه وسلم ؛ وعند ذلك تفاقم حقد اليهود ، واشتد غيظهم وبغيهم ، فجمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذرهم مغبة البغي والعدوان ، فعن ابن عباس رضي الله عنه قال :[ لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشًا يوم بدر ، وقدم المدينة ، جمع اليهود في سوق بني قينقاع ، فقال لهم : يا معشر يهود ! أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشاً ، قالوا : يا محمد ! لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفرًا من قريش كانوا غمارًا لا يعرفون القتال ، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس وأنك لم تلق مثلنا ] .
فأنزل الله ـ سبحانه وتعالى ـ قوله : ( قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد * قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرةٌ يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء ، إن ذلك لعبرة لأولي الأبصار ) (آل عمران /12-13) .
فكان معنى إجابة اليهود هو الإعلان السافر بالحرب ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كظم غيظه وصبر ، وصبر معه المؤمنون ، وأخذون ينتظرون ما تتمخض عنه الليالي .
اليهود ينقضون العهد :
وما لبث اليهود أن نقضوا ما عاهدوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبدأت قبائلهم بالغدر قبيلةً قبيلة حتى أجلاهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، وطهر مدينته منهم .
وأول من نقض العهد يهود بني قينقاع وذلك في السنة الثانية للهجرة بعد غزوة بدر ، ثم بني النضير في السنة الرابعة للهجرة بعد غزوة أحد ، ثم بني قريظة في السنة الخامسة للهجرة في غزوة الخندق ( الأحزاب ) .
وتفصيل ذلك كما يلي :
أولاً : يهود بني قينقاع :
كانوا حلفاء الخزرج ، وكانت ديارهم داخل المدينة ، وهم أشجع يهود المدينة ، وكانوا يعملون بصياغة الذهب وصنع الأواني والحدادة ، وتمثل نقضهم للعهد بأن امرأة مسلمة جاءت بجلب لها فباعته بالسوق ، ومالت إلى صائغ يهودي لتشتري منه مصاغـًا ، فجلست وحوله يهود ، فعابوا عليها ستر وجهها ، وطالبوها بكشفه فأبت ذلك حفاظـًا على عفتها وصيانة لعرضها وشرفها ، إلا أن أحدهم غافلها وربط طرف درعها من أسفله بطرف خمارها ؛ فلما قامت انكشفت عورتها : فصاحت واكشفتاه ! فسمعها رجل مسلم فهب لنجدتها ، فرأى ما بها ، فوثب على اليهودي فقتله ، فقام يهود فاشتدوا علىالمسلم فقتلوه ، وهبَّ رجال من المسلمين للحادث فاقتتلوا مع اليهود ، فعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك وأنهم غدروا ، فسار إليهم بجنود الله ، ولما رآهم اليهود تحصنوا بحصونهم ، وكان عدد المقاتلين من اليهود سبعمائة رجل ، فحاصرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أشد الحصار ، وكان ذلك في شوال من السنة الثانية للهجرة بعد غزوة بدر ، ودام الحصار خمسة عشر يومـًا ، وقذف الله في قلوبهم الرعب ، فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وكان عليه الصلاة والسلام يريد أن يقتلهم ، ولكن المنافق عبد الله بن أبي بن سلول حليفهم شفع عند النبي صلى الله عليه وسلم ومازل يلح عليه حتى وهبهم له على أن يخرجوا من المدينة ، فخرجوا إلى نواحي الشام ؛ فما لبثوا حتى هلك أكثرهم ، فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أموالهم بين الصحابة ، وأخذ الخمس لينفقه فيما أمر الله به ، وانتهى بذلك أمر يهود بني قينقاع نتيجة خيانتهم .