ضرب الله الأمثال في كتابه العزيز، دلَّ على هذا الكتاب نفسه، فقال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[1]، وقال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}[2]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}[3].
ودل على هذا قوله - عليه الصلاة والسلام - فيما رواه الترمذي عن علي - رضي الله عنه -: ((إنَّ الله أنزل القرآن آمرًا وزاجرًا، وسنة خالية، ومثلاً مضروبًا)).
وتتبَّع ابن القيم أمثال القرآن التي تضمنت تشبيه الشيء بنظيره، والتسوية بينهما في الحكم، فبلغت بضعة وأربعين مَثَلاً.
وجرى على طريقة القرآن في ضرب الأمثال أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى روي عن عبدالله بن عمر أنه قال: "حفظت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألف مثل"، وهذا الأثر قد نبَّه نقَّاد الحديث على عدم صِحَّته، لكن روايته تشعر بأن الأمثال الواردة في السنة ليست بقليل، وقد عقد للأمثال النبوية أبو عيسى الترمذي في جامعه بابًا أورد فيه أربعين حديثًا، وقال القاضي أبو بكر بن العربي: "لم أرَ من أهل الحديث من صنَّف فأفرد للأمثال بابًا غير أبي عيسى، ولله درُّه، لقد فتح بابًا، وبنَى قصرًا أو دارًا، ولكنَّه اختطَّ خطًّا صغيرًا، فنحن نقنع به ونشكره عليه".
فللأمثال أثر بليغ في تلقي الدعوة بالقبول، لذلك أحرَزَتْ بين الأساليب التي يتحرَّاها القرآن في هدايته منزلة سامية.
ولمَّا دعاني حضراتُ الفُضَلاءِ جماعة المحاضرات بكلية اللغة العربية إلى إلقاء محاضرة بالكلية آثرت أن يكون موضوع المحاضرة أمثال القرآن الكريم.
فلا جرم أن نوجه النظر إلى البحث عن معنى المَثَل، ثم إلى البحث عن فوائد ضرب الأمثال، فتحقيق معنى المثل، وبيان الحكمة من ضربه، هما الغرضان اللذان نرمي إليهما في هذه المحاضرة.
المثل في اللغة:
يستعمل المثل في أصل اللغة بِمعنى الشبيه والمِثْل، ثم قالوا للقول السائر الممثل مضربه بمورده مثلاً.
والمثل بِهذا المعنى هو الذي ألَّف فيه علماء اللغة كتب الأمثال؛ كأبي عبيدة، وابن حبيب، وابن قتيبة، وابن الأنباري، وأبي هلال، والميداني.
ولما كان العرب لا يضربون الأمثال إلا بقول فيه حسن وغرابة، ونقلوا لفظ المثل إلى معنى ثالث، هو الشأن الغريب والقصة العجيبة، وبهذا المعنى فسر لفظ المثل في كثير من الآيات؛ كقوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ}[4].
ونبه الزمخشري لهذه المعاني الثلاثة، ودل على أنها وردت في اللغة على هذا الترتيب؛ فقال في "كشافه": "والمَثل في أصل كلامهم بمعنى المِثل والنظير، ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده مثل، ولم يضربوا مثلاً ولا رأوه أهلاً للتسيير، ولا جديرًا بالتداول والقبول إلا قولاً فيه غرابة من بعض الوجوه"، ثم قال: "وقدِ استُعِير المثل للحال أو الصفة أو القصة إذا كان لها شأن وفيها غرابة".
وكذلك يقول السعد التفتازاني في "الشرح المطوَّل": "ولكون المثل مما فيه غرابة استعير لفظه للحال أو الصفة أو القصة إذا كان لها شأن غريب ونوع غرابة؛ كقوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ}؛ أي فيما قصصنا عليكم من العجائب قصة الجنة العجيبة".
وحدث بعد هذا أن ذهب علماء البيان في تعريف المثل إلى معنى رابع، إذ قالوا في بحث المجاز المركب: إن المجاز المركب الذي تكون علاقته المشابهة متى فشا استعماله سمي مثلاً، وإلا سمي مجازًا مرسلاً، وقالوا: فما لم يكن استعارة أو لم يفش استعماله، فليس بمثلٍ عندهم، فالمثل إذًا هو المجاز الذي تكون علاقته المشابهة ويفشو استعماله؛ وإنما قلنا: إن ما ذهب إليه البيانيون معنى رابع للمثل، وليس هو المعنى الذي يريده المؤلفون في أمثال العرب؛ ذلك أنَّ المؤلِّفين في الأمثال لا يقصرون المثل على ما يكون استعماله من قبيل الاستعارة؛ نحو قولك للمتردد في فعل أمر: "ما لي أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى"، وقولك لمن ترك شيئًا عند سنوح الفرصة لإدراكه، ثم قام يسعى إليه بعد فوات الفرصة: "الصيف ضيعت اللبن"؛ بل يطلقون المثل على كلام شائع لحسنه، أو لاشتماله على حكمة بالغة، فيتناول كلامًا يكون استعماله في مضربه على وجه الاستعارة، وما يكون استعماله على وجه الحقيقة نحو "السعيد منِ اتعظ بغيره"، وما يكون استعماله على وجه التشبيه الصريح نحو قولك "يخاف شره ويشتهي قربه" كالخمر يشتهي شربها ويخشى صداعها.
فتلخَّص لنا مما سبق أنَّ للمثل معنى في أصل اللغة،، هو الشبيه والمِثل، ومعنى هو القول السائر، ومعنى هو الوصف الغريب أو القصة الغريبة، ومعنى هو المجاز المركب الذي تكون علاقته المشابهة ويفشو استعماله.
المثل في القرآن:
فإذا رجعنا بعد هذا إلى تعرُّف أمثال القرآن، المشار إليها بمثل قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21] لنعلم ما المراد من المثل الذي يضربه الله للناس، فهل يراد منه الشبيه والنظير، أو يراد منه القول السائر الذي يشبه مضربه بمورده، أو يراد منه الحال أو القصة الغريبة، أو يراد المجاز المركب المستعمل على وجه الاستعارة؟
لنا في تحقيق معنى المثل في القرآن نظران:
ننظر أوَّلاً في كلام من تصدوا في علوم القرآن إلى أمثاله، فكتبوا فيها مصنفًا مستقلاًّ؛ كما فعل أبو الحسن الماوردي، أو عقدوا لها بابًا خاصًّا؛ كما فعل الشيخ السيوطي في كتاب "الإتقان"، وفعل الشيخ ابن القيم في كتاب "إعلام الموقعين".
ثم ننظر ثانيًا في بعض معاني الآيات التي استعمل فيها القرآن كلمة المثل؛ لعلنا نعرف بها ماذا يراد من المثل في استعمال القرآن.
النظر الأول في كلام مَنْ بَحثوا في أمثال القرآن:
لم يقع بأيدينا تأليف الماوردي في أمثال القرآن؛ ولكنَّ السيوطي نقل عنه أنه قال: "من أعظم علوم القرآن علم أمثاله، والناس في غفلة عنه؛ لاشتغالهم بالأمثال، وإغفالهم الممثلات، والمثل بلا ممثل كالفرس بلا لجام، والناقة بلا زمام".
وهذه العبارة تدلُّ على أنَّه يريد من أمثال القرآن الآيات المشتملة على تَمثيل حالِ أمرٍ بِحال أمر آخر، سواء أورد هذا التمثيل بطريق الاستعارة أم بطريق التشبيه الصريح، وهذا المعنى هو الذي نفهمه من قول السيوطي: "الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجلي، والغائب بالشاهد".
ولكن الشيخ السيوطي قسَّم الأمثال إلى أمثال صريحة وأمثال كامنة، وأتى للأمثال الصريحة بأمثلة من الآيات المشتملة على تشبيه حال شيء بحال شيء آخر؛ كقوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ}[5]، ثم أخذ في الحديث عن الأمثال الكامنة، ناقلاً لها عن الماوردي؛ فقال: "وأما الكامنة، فقال الماوردي: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن مضارب بن إبراهيم يقول: سمعت أبي يقول: سألت الحسن بن الفضل، فقلت: إنك تخرج أمثال العرب والعجم من القرآن، فهل تجد في كتاب الله "خير الأمور أوساطها"؟ قال: نعم، وأورد آيات تتضمن معنى المثل، منها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}[6]قال: قلت: فهل تجد في كتاب الله "من جهل شيئًا عاداه"؟ قال: نعم، في موضعين: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ}[7]، {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ}[8]، وجرى على هذا النحو حتى قال له: فهل تجد فيه "لا تلد الحية إلا حية"؟ قال: قال تعالى: {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا}[9] .وأجد فيما مر علي من هذا النوع أنه ذكر الظلم في مجلس ابن عباس، فقال كعب: إني لا أجد في كتاب منزل أن الظلم يخرب الديار، فقال ابن عباس: أنا أوجدكه في القرآن؛ قال تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا}[10]، وقال شخص لآخر: أين تجد في القرآن: "الجار قبل الدار"؟ قال أجده في قوله تعالى: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ}[11].
وبمقتضى هذا يصح لنا أن نقول من أمثال القرآن الكامنة "خير الأمور أوساطها"، ومن أمثاله الكامنة "من جهل شيئًا عاداه"، ومن أمثاله الكامنة "لا تلد الحية إلا حية".إذًا يعد من أمثال القرآن في نظر السيوطي والماوردي أقوالٌ لا تشتمل على استعارة أو تشبيه، إذ لا يقول أحد أن في قولهم: خير الأمور أوساطها، أو قولهم: من جهل شيئًا عاداه، أو قولهم: الجار قبل الدار - استعارة أو تشبيهًا.
فأمثال القرآن لا يستقيم حملها على أصل المعنى اللغوي الذي هو الشبيه والنظير، ولا يستقيم حملها على معنى الأمثال عند من ألفوا في الأمثال؛ إذ ليست أمثال القرآن أقوالاً استعملت على وجه تشبيه مضربها بموردها، ولا يستقيم حملها على معنى الأمثال عند علماء البيان؛ إذ المثل عندهم ما استعمل على وجه الاستعارة وفشا استعماله. ومن أمثال القرآن ما ليس باستعارة، ثم هي أمثال من وقت نزولها، فلم يتحقق فيها إذ ذاك فشو الاستعمال.
وننظر إلى ما سلكه ابن القيم في تقدير أمثال القرآن، فنجده يقول فيها - أي أمثال القرآن -: تشبيه شيء بشيء في حكمه، وتقريب المعقول من المحسوس، أو أحد المحسوسين من الآخر واعتبار أحدِهِما بالآخر.وساق لبيان هذا نحو عشرين مثلاً من القرآن الكريم، وعندما نتأمل في هذه الأمثال، نَجِدُ أكْثَرَها وارِدًا على طريقة التشبيه الصريح؛ كقوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17]، وقوله تَعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ}[12]، ومنه ما يجيء على طريقة التشبيه الذي يسميه بعض علماء البلاغة التشبيه الضمني، أو التشبيه المكنى عنه، كقوله تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ}[13]؛ إذ ليس فيه تشبيه صريح، وإنما هو تشبيه ضمني نحو:
فَإِنْ تَفُقِ الأَنَامَ وَأَنْتَ مِنْهُمْ فَإِنَّ المِسْكَ بَعْضُ دَمِ الغَزَالِ
ونجد من بينها ما لم يشتمل على تشبيه ولا استعارة؛ كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}[14].
فقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا} قد سماه الله مثلاً، وليس فيه استعارة ولا تشبيه.
النظر الثاني في استعمال القرآن لكلمة "مثل":
يستعمل القرآن كلمة "مثل" في تشبيه حال قوم بحال آخرين؛ كقوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17]، أو تشبيه حال شيء بحال شيء آخر؛ كقوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ}[15]إلى آخر الآية.
وقد يستعمل القرآن كلمة "مثل" في وصفٍ أو قصة تقع في نفس المخاطَب موقع الغرابة، دون أن يكون فيه تشبيه أوِ استعارة؛ كقوله تعالى: {ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية على ما بينَّا آنفًا.
فضرب المثل في القرآن قد يستعمل في تمثيل حالةٍ غريبةٍ بِأُخْرى مثلِها، وقد يستعمل في ذكر حالة غريبة تقصد لنفسها، ولا يراد تَمثيلها بنظيرة لها، ومن هنا ترى المفسرين قد يختلفون في تفسير آيات سماها الله مثلاً، فمنهم مَن يفسِّرها على قَصْدِ جعْلِها مثلاً لشيْءٍ آخَر، ومِنْهُم مَنْ يُفَسِّرُها على أنَّها قصة غريبة في نفسها، فيُمْكِنُنا أن نقول: أمثال القرآن ما يضرِبُه الله للناس من أقوال تتضمَّن ما فيه غرابةٌ من تشبيهٍ أوِ استعارة أو قِصَّة، ويدخل في هذا كل ما سَمَّاه القرآن قبل ذلك أو بعده مثلاً؛ بل ويعدُّ في أمثال القرآن كل ما اشتمل على تمثيل حال شيء بحال آخر؛ كقوله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}[16]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا}[17].
الآيات الجارية مجرى الأمثال:
فإن سأل سائل عن الآيات التي تجري على ألسنة الناس كما تجري الأمثال؛ كقوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6] إذ يستعملونها في المتاركة، قلنا هذا الضرب من الآيات يسميه علماء البيان: ما خرج محرج المثل أو جرى مجرى الأمثال، فقد قالوا في بحث التذييل من باب الإطناب: إن التذييل ضربان: صرب لم يخرج مخرج المثل، وهو ما لم يستقل بإفادة المراد، وضرب خرج مخرج المثل بأن تكون الجملة الثانية حكمًا كليًّا منفصلاً عما قبله، جاريًا مجرى الأمثال في الاستقلال وفشو الاستعمال؛ نحو قوله تعالى: { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}[18].
وقد أخبرنا السيوطي بأن جعفر بن شمس الخلافة عَقَدَ في كتاب "الآداب" بابًا في ألفاظ من القرآن تجري مجرى المثل؛ كقوله تعالى: {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} [النجم: 58] وقوله تعالى {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53] وقوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} [المائدة: 100] وقوله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] وقوله تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43].
وقد أدخل علماء البديع أمثال هذه الآيات في النوع الذي يسمونه إرسال المثل، وهو أن يأتي المتكلم بما يجري مجرى المثل من حكمة أو غيرها فيما يحسن التمثل به، ولا ندع هذا الضرب من الآيات حتى ننبه على حكم استعمال الآيات استعمال الأمثال، فقد رآه بعض أهل العلم خروجًا عن أدب القرآن، قال الرازي في تفسير قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}: "جرت عادة الناس بأن يتمثلوا بهذه الآية عند المتاركة، وذلك غير جائز؛ لأنه تعالى ما أنزل القرآن ليتمثل به، بل يتدبر فيه، ثم يعمل بموجبه".
ولا حرج فيما يظهر أن يتمثل الرجل بالقرآن في مقام الجد؛ كأن يأسف أسفًا شديدًا لنزول كارثة، قد انقطعت أسباب كشفها عن الناس، فيقول: {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ}، أو يحاوره صاحب مذهب فاسد، يحاول استهواءه إلى باطله، فيقول: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}، والإثم الكبير في أن يقصد الرجل إلى التظاهر بالبراعة، فيتمثل بالقرآن حتى في مقام الهزل والمزاح.
فوائد ضرب المثل:
يُضرب المثل لتقرير حال الممثل في النفس، حيث يكون الممثل به أوضح من الممثل، أو يكون للنَّفْسِ سابقة ألفة وائتناس به، كما ضرب الله مثلاً لحالِ المنفق رِياءً، حيثُ لا يَحْصُل من إنفاقه على شيءٍ من الثواب، فقال تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا}[19]، فقد مثَّل حال المرائي في إنفاقه بحال الحجر الأملس يكون عليه تراب، فيصيبُه مطرٌ غزير، فيذهبُ بِما عليه من تراب، فأعمال المُرائي مثل التراب الذي كان على الحجر، فإنَّها تذهب هباء، ولا يجد لها ثوابًا، وفي هذا المثل تقرير لخيبة المرائي على وجه أبلغ ما يكون.
ويُضرب المثل للترغيب في الممثل، حيثُ يكون الممثل به مِمَّا تستَحْسِنُه النفوس وترغب فيه، كما ضرب الله مثلاً لحال المُنْفِق في سبيل الله، حيث يعود عليه الإنفاق بخير كثير، فقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[20].
ويُضرب المثل للتنفير، حيثُ يكون الممثل به مما تكرهه النفوس وتنفر منه، كما ضرب الله مثلاً لحال المغتاب، فقال تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ}[21]، وليس من شكٍّ في نفور الطِّباع من أكل لحم الأخ وهو ميت، فينبغي أن يكون نفوره من الغيبة بِمقدار هذا النفور.
ويضرب المثل لمدح الممثل، حيث يكون في الممثل به صفات تستحسنها النفوس، وتمدح من يحرز مثلها، كما ضرب الله مثلاً لحال الصحابة - رضي الله عنهم - فقال تعالى: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}[22].
فالزرع يخرج شطأه، وهو ما تفرع في شاطئيه؛ أي جوانبه، ثم يقوى ويستغلظ أي يصير بعد الدِّقَّة غليظًا، وكذلك حال الصحابة؛ فإنَّهم كانوا في بدء الأمر قليلاً، ثم أخذوا في النمو، حتى استحكم أمرهم، وامتلأتِ القلوب إعجابًا بعظمتهم.
ويضرب المثل للذَّمِّ، حيث يكون للممثل به صفة يستقبحها الناس، ويذمون من رضي لنفسه بمثلها، كما ضرب الله مثلاً لحال من آتاه الله كتابه، فنكث يده من العمل به، وانحط في أهوائه، فقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا}[23]، فقد مثلت الآية حال العالم المنحطِّ في أهوائه بحال الكلب، الذي هو أخبث الحيوان وأخسها نفسًا، ذلك أن المنحط في أهوائه شديد اللهف على الدنيا، قليل الصبر عنها، فلهفه نظير لهف الكلب الدائم في حال إزعاجه وتركه.
ويضرب المثل في مقام الاحتجاج، حيث يلزم من تسليم الممثل به، وإدراك أن الممثل مطابق له - الرجوع إلى الاعتقاد بالحق، كما ضرب الله مثلاً للدلالة على أنه الإله الحق، وأن الأوثان لا تستحق أن تعبد، فقال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ}[24].
إذ دلَّ بالمثل على عجز الأصنام عن أن تنفع عابدها بشيء؛ إذ مثَّل حالَها بِحال العبد المملوك الذي لا يقدِرُ على شيء، ودلَّ على كمال قُدرتِه؛ إذ جعل في مقابلة العبد المملوك الممثل للأصنام مَن اتسع رزقه وكان ينفق منه كيف يشاء، ومن له مسكة من العقل لا يتولى العاجز بالعبادة، ويدع عبادة القادر على كل شيء.
ومن بديع أسلوب القرآن في ضرب المثل أن يسوق الجمل، مستعملاً لها في معانيها الحقيقية، قاصدًا بها غرضًا خاصًّا؛ كالاحتجاج على بعض العقائد، وبعد أن يفيد بها هذا الغرض يعود إلى جعلها مثلاً يرمي إلى غرض من الأغراض التي تضرب لها الأمثال، فانظروا إن شئتم إلى قوله تعالى: {وَهُوَ الوَاحِدُ الْقَهَّارُ * أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَال}[25].
فقوله تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً... إلى قوله {زَبَدٌ مِثْلُهُ} ظاهر في معنى تقرير حجة على كمال قدرته تعالى، وبعد أن أقام به حجة على المشركين جعل هذا القول نفسه مثلاً يستبين به الحق والباطل، فقال تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ}، وهذا من الإيجاز الذي بلغ به القرآن أعلى طبقات البلاغة.
إذا ضرب الله مثلاً، فهل يجوز أن يراد من ذلك المثل المعني الذي سيق من أجله؛ نحو التقرير أو التحسين، أو التقبيح، ولا يلزم أن تكون صورة الممثل به واقعة في نفس الأمر؟!
ذهب فريق إلى جواز ذلك، فتَرَوْنَ الزمخشري وهو ينكر أن يصرع الشيطان الإنسان، يقول في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}[26]: "تخبط الشيطان من زعمات العرب، يزعمون أنَّ الشيطان يخبط الإنسان فيصرعه، فورد على ما كانوا يعتقدون"، أو يقال إن الله لا يضرب المثل إلا بما يقع، حتى إذا ضرب المثل بشيء أمكننا الاستدلال بالتمثيل على وقوع ذلك الشيء، وهذا ما يقوله جمهور أهل السنة، ونحن نستبعد أن يُمثِّل الله تعالى بأمر يزعمه الناس زعمًا باطلاً، فإن التمثيل به دون تنبيه على بطلانه لا يلائم ما عرف في هداية القرآن، ومن هنا قرر المحققون من الأصوليين قاعدة، هي أن ما يقصه القرآن من قول يتضمَّن رأيًا ولا يقرنه بتنبيه على بطلانه، أو يكون قد نبه عليه من قبل، فإنه يعد حقًّا لا محالة.
فالقرآن لا يمثل بشيء يزعمه العرب زعمًا باطلاً، ولكنه قد يمثل بشيء لا يدخل في قبيل المزاعم الباطلة، وإنما هو شيء يصفه بصفات مفهومة الحقائق، ممكنة الوقوع، وإن لم تقع عليها أعين الناس مجتمعة، فالله تعالى يقول: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} فقد ذكر طائفة من الباحثين أن هذا من قبيل التمثيل بموجود، وأنَّ البرة "الحبة من البر" قد تبلغ في الأرض القوية المغلة أن تنبت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، وعلى فرض أن لا يرى الناس حبة بلغت في الإنبات هذا المبلغ، لم يكن في تمثيل القرآن بها من بأس.
وقد يضرب القرآن المثل بأمر موجود على حال حسن أو قبح، والناس يعتقدونه على ما هو عليه من حسن أو قبح، وإن لم يروه بأبصارهم، ولكنه يحضر في أذهانهم بصورة جميلة أو صورة قبيحة، فيكون التمثيل به تمثيلاً بأمر موجود، وصورته الحاضرة في الأذهان مطابقة للواقع من حيث حسنها أو قبحها، ومثال هذا قوله: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ}[27]، فالشيطان شخص حي، ولكن المخاطبين لم يروه بأبصارهم، وجاء التمثيل في هذه الآية على ما اعتقدوه اعتقادًا مطابقًا من قبح صورته، وعلى هذا النحو يجري التمثل بالملك في قوله تعالى: {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31] فإن التمثيل جارٍ على ما تصوروه من حسنه، وهذا التصور صادق لا محالة.
وإن تعجب فاقض العجب مِمَّن يعمد إلى قصة في القرآن، قصها الله تعالى لما فيها من عبرة وحكمة، ويجرؤ على أن يقول: "إن هذه القصة وردت على طريقة التمثيل"، يقول هذا وليس بيده شاهد من الآية نفسها، ولا دليل سمعي من غيرها، ولا أن العقل السليم ينكر أن تكون واقعة، كما قال بعضهم هذا القول في قصة الملائكة وسجودهم لآدم عليه السلام.
ولو فتح هذا الباب من التأويل الجامح، لاتخذه ضعفاء الإيمان وسيلة إلى جحود كثير من الحقائق، حيث يحملون آياتها على أنها تمثيل، ويخترعون لها من الممثلات ما تشاء أهواؤهم.
وإذا كان القرآن إنما نزل بلسانٍ عربِيٍّ مبين، فإنَّ العرب لا يذهبون بالكلام مذهب التمثيل إلا أن يحفوه بقرينة كافية في الدلالة على أنه تمثيل.