بسم الله الرحمــــــــــن الرحــــــــــــــــــــــــــيم
لا يستطيع المرء من خلال هذه الصفحات القليلة المتواضعة مهما كان محتواها ومهما كان حجمها أن يستوفي ذلك التاريخ المشرق الذي خط أسطورته الشعب الجزائري بدماء أبنائه البررة، فقد سقط في ميدان الشرف مليون ونصف المليون شهيد فداءا لاستقلال الجزائر.التي عاشت تحت نير الاستعمار أكثر 132 سنة، وقد قام الشعب الجزائري خلال هذه المدة بثورات كثيرة لكنها لم تنجح ، ولكنه في نهاية المطاف نجحت ثورة نوفمبر التي اندلعت سنة 1954 التي استفادت من الثورات والانتفاضات السابقة. لذلك فثورة نوفمبر لها مميزاتها الخاصة، من بين هذه المميزات استفادتها من التجارب الماضية، إذ كان الشعب الجزائري قد ملّ من العمل السياسي.
وكانت ثورة نوفمبر شعبية في طموحاتها وفي كفاحها ضد العدو المحتل، وما حققته هذه الثورة من انتصارات تلو الانتصارات إلا دليل قاطع، على أنها جماهيرية المحتوى والشكل بتحطيمها أسطورة القوة التي لا تقهر، فكانت صرحا من خيال، فهوت أمام عزيمة الرجال الذين آمنوا بالثورة قلبا وروحا فباعوا أنفسهم في سبيل الله لتحيا الجزائر عربية إسلاميةـ فالثورة الجزائرية لم تكن مسيرة أو موجهة من طرف زعيم واحد بل كان زعيمها هو الشعب الجزائري ، فهي ذات عقيدة إسلامية، فدخول الإسلام إلى المغرب الأوسط كان عامل وحدة وجلب عقيدة ساهمت في توحيد السلوك والاتجاهات، ولغة وحّدت التفكير والشعور، وبمعنى آخر فالعقيدة الإسلامية خلقت حضارة عربية إسلامية مكنت الجزائريين من الالتفات حولها فصاروا أقوياء متماسكين فالإسلام هو الذي جسم القيم العليا للشعب الجزائري وساهم في حماية الشخصية الوطنية من الذوبان في الشخصية الأوربية وحفظ للشعب الجزائري كيانه وشخصيته. ومقومات هذه الشخصية هو الإسلام لأنه مشعل الثورة فإنه لولا الدعوة إلى الإسلام والالتفات حول هذه العقيدة وتعاليمه القيمة التي تدعوا إلى مقاومة الاستعمار باسم الإسلام والجهاد في سبيل الله والوطن. لكان في الإمكان ذوبان السكان المحليين المتخلفين في مجتمع الأوربيين المتقدمين. و بفضل الأنتماء العربي الإسلامي استطاعت الثورة الجزائرية أن تفرض وجودها على الصعيدين الداخلي و الخارجي. 1ـ على الصعيد الداخلي: استطاع جيش التحرير الوطني بفضل إيمانه و قوته بالله و بأ مته العربية الإسلامية أن يصمد أمام قوة تفوقه عددا و عدة وصمد طويلا وأدى با لتا لي إلى إفشال مخططات العدو، و إظهار عجز الحكومات الفرنسية و أجهزتها عن معالجة "قضية الجزائر" و فضح الطبيعة الاستعمارية و العنصرية للوجود الفرنسي في الجزائر و هو الوجود الذي كان يعمل على قمع تطلعا ت شعب عربي يريد الحرية و الاستقلال (1). 2ـ على الصعيد الخارجي: استطاعت الثورة الجزائرية أن تنال تأييد الحكومات العربية و الإسلامية من اجل تدويل القضية الجزائرية و توجيه اهتمام العالم الخارجي نحو ما يحدث فوق أرض الجزائر، و بهذا أدركت القوة العربية الإسلامية مدى جدّية و أهمية الثورة الجزائرية، لا بالنسبة للجزائر وحدها بل بالنسبة للأمة العربية و الإسلامية كلها. لذلك كانت القاهرة و دمشق و بغداد و كل العواصم العربية و الإسلامية معتزة بها أيما اعتزاز، و كانت إذاعة صوت العرب من القاهرة صوتا ناطقا باسم الثورة داعيا لها مدافعا عنها، مرغّبا في الالتفاف حولها و الانضمام إليها، و كان له تأثير على المستمعين، حتى أن الجزائريين أصبحوا يعتبرونه الناطق الرسمي للثورة الجزائرية، أما تونس و المغرب فقد استطاعتا الحصول على استقلالهما ، و قد كانتا مفتوحتين للثورة الجزائرية و هذا شيء طبيعي لأن الجزائر كانت تحاول تكوين جيش تحرير مغربي و لكن الأوضاع في بلاد المغرب كانت مختلفة عن بعضها، فأدرك العدو أن مجابهة المغاربة في واجهة واحدة سيكون أكثر صعوبة عليه لذلك تفاهم مع كل من تونس و المغرب و حصر كل طاقته و جهده السياسي و العسكري و الاقتصادي في الجزائر ظنا منه أن تفرغه للثورة الجزائرية سيمكنه من القضاء عليها، و لكن الأيام أخذت تثبت له عكس ما كان يظن فأخذ في توسيع تفكيره واعتقد أن القاهرة هي السبب، و أنها هي الجزائر، و أن القضاء عليها كفيل بالقضاء على الثورة الجزائرية، فراح "قي مولي"رئيس الوزراء الفرنسي يشن حربا على مصر الشقيقة ليمنعها من حقها الشرعي في القتال و انساق وراء ه التيار البريطاني الإسرائيلي و غزو مصر في 20 أكتوبر 1956. و لكنه عاد بخفي حنين، و لم يستطع أن ينال لا من هذه الثورة و لا من تلك، و أعياه التفكير في هزائمه المتلاحقة (2) هكذا كانت ثورة نوفمبر في نظر الأمة العربية "ثورة عربية" يجب على العرب أن يساعدوها بكل الإمكانيات وأن نجاحها هو نجاح العرب و فشلها لا قدر الله فشل للعرب، و على هذا الفهم العربي سار العرب مع الثورة الجزائرية (3) و أصبحت بعد خمسة أشهر و نصف من اندلاعها تحتل اهتمام القادة في مؤتمر "باندونغ" المنعقد في 18 أبريل 1955 و التي كانت من بينها الاعتراف الصريح باستقلال الجزائر و حق الشعب الجزائري في تقرير مصيره؛ و ما كاد يحل أول أكتوبر عام 1955 حتى قرعت القضية الجزائرية باب الأمم المتحدة واستقبلها الأعضاء بأغلبية 28 صوتا ضد 27 و امتناع 5 أعضاء عن التصويت و سجلت القضية في جدول أعمال الجمعية العامة، و أزيلت المزاعم الاستعمارية التي كانت تعتبر "قضية الجزائر" من خصوصيات فرنسا الداخلية (4) و ما أن اقتحمت القضية الجزائرية أروقة الأمم المتحدة حتى شعرت فرنسا بمرارة الخيبة و باتت تتوقع أن تتعرض لمزيد من الفضائح المتعلقة بمزاعمها عن فرنسة الجزائر و اعتبر المراقبون أن نجاح القضية الجزائرية في اقتحام أروقة هيئة الأمم المتحدة هو بداية انهيا ر ما يطلق عليه اسم "فرنسا الكبرى" و كان انتصارا سياسيا للوطنيين الجزائريين المدعمين بانتصارات مستمرة في مجال العمل العسكري و تطلع آخرون أنه من هنا بدأ الصراع السياسي المرير بين الاستعمار من جهة و بين الشعوب التواقة إلى التحرر من جهة أخرى، و كان تسجيل القضية الجزائرية في جدول أعمال هيئة الأمم المتحدة نقطة انطلاق للقضية الجزائرية وبدأت معركة سياسية عنيفة بين العرب و أعدائهم على المستوى الدولي (5). 3 ـ موقف فرنسا من الضغوط الدولية: لم تستسلم فرنسا للضغوط الدولية و صممت على معاكسة تيار التاريخ حتى النهاية فهددت بالانسحاب من اجتماعات هيئة الأمم المتحدة إذا ما وافقت هذه الهيئة على مناقشة القضية الجزائرية. و فعلا نفذت تهديدها و انسحب وفدها من اجتماعات الجمعية العامة و اللجان الفرعية و لم تجد الدول الأفرو-آسيوية بدا من اتخاذ حل وسط لمجابهة الأزمة الناجمة عن انسحاب الوفد الفرنسي و قررت تأجيل بحث القضية إلى الدورة القادمة على أن تأخذ فرنسا على عاتقها إيجاد الوسائل الكفيلة لتهدئة الأوضاع المتفجرة في الجزائر وقد سبب هذا القرار امتعاضا لدى الوفود العربية إلا أنها ظلت مطمئنة طالما أن القضية مدرجة في جدول الأعمال للدورة القادمة، و حين أقبلت هذه الدورة (56 - 57) كانت كتلة الدول الأفرو-آسيوية و كتلة الدول الشرقية (الشيوعية) قد قررت اتخاذ موقف يناقض الموقفالفرنسي و رفضت هذه المرة أن لا تتساهل في مصير عشرة ملايين عربي ليسوا من الفرنسيين في شيء و أظهرت مناقشات الأمم المتحدة خلال بحثها الأول للمشكلة الجزائرية من هم أصدقاء العرب فوقف في مصاف الأصدقاء كتلة الدول الأفرو-آسيوية ما عدا تركيا و كتلة الدول الشرقية بزعامة روسيا و بعض دول أمريكا اللاتينية ودولة أطلسية هي دولة اليونان بينما وقفت إلى جانب فرنسا دول العالم الحر بزعامة أمريكا (6). انتهت هيئة الأمم المتحدة من مناقشة قضية الجزائر مساء الخميس 15 فبراير 1957 ووافقت اللجنة على مشروع تقدمت به الكتلة الأفرو- أسيوية و كتلة دول أمريكا اللاتينية و قد جاء في القرار"أن الجمعية العامة بعد أن استمعت إلى مناقشة قضية الجزائر و بعد أن أخذت علما بالوضع في الجزائر الذي يسبب خسارة في الأرواح تعرب عن أملها في إيجاد حل سلمي ديمقراطي عادل وفقا لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة و ذلك بالطرق المناسبة الصحيحة و بالتفاهم المشترك" (7).و على إثر قرار الأمم المتحدة أصدرت جبهة التحرير الوطني بيانا قالت فيه إن الأمم المتحدة بقبولها مناقشة قضية الجزائر قد أقرت بصلاحياتها لبحث القرار الذي صوتت عليه الجمعية العامة و الذي يتضمن رغبة حازمة من جانب الأمم المتحدة. و ذكرالبيان أن جبهة التحرير الوطني مستعدة من جانبها تلبية رغبة الأمم المتحدة للدخول في مفاوضات على أساس حق الشعب الجزائري في الاستقلال (8).و على الرغم من إبداء جبهة التحرير الوطني رغبة في التفاوض على أسا س مبادئ الأمم المتحدة، فإن فرنسا لم تظهر أية نية لإجراء مفاوضات مباشرة و أصرت على تجاهل وجود جبهة التحرير كممثلة للشعب الجزائري (9).4 ـ المساعي الحميدة لدولتي المغرب و تونس: قامت دولتا تونس و المغرب بمساع حميدة من أجل خلق جو مواتي لإجراء مفاوضات بين جبهة التحرير الوطني و حكومة فرنسا. و بازدياد اهتمام الدولتين بالمصاعب على طول حدودهما المشتركة مع الجزائر، اشتركتا في العمل من أجل إجراء تسوية سلمية، و قد تقابل الرئيس "الحبيب بورقيبة" و الملك "محمد الخامس" في الرباط أواخر شهر نوفمبر 1957 مع حضور وفد من جبهة التحرير الوطني و اقترحت الحكومتان بدء مفاوضات "سوف تنتهي بحل عادل يؤدي إلى تأكيد سيادة الشعب الجزائري وفقا لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة " و عرضا مساعيهما الحميدة من أجل هذه الغاية، و ترددت الجبهة في قبول عرض الدولتين. ثم تراجعت و أعلنت أن السيادة في حدود ما يهمهما ترقى إلى مرتبة الاستقلال. لكن الحكومة الفرنسية رفضت العرض قائلة أن تونس و المغرب ليستا محايدتين في النزاع (10). و لم يترك فشل المساعي الحميدة لتونس و المغرب إلى الأمم المتحدة ملاذا لجبهة التحرير الوطني. ففي 17 جوان كانت مجموعة الدول الأفرو-آسيوية قد طلبت إعادة إدراج مسألة الجزائر في جدول أعمال الدورة الثانية عشرة للأمم المتحدة، و في منتصف شهر سبتمبر طلبت الجبهة من الأمم المتحدة أن تعلن "عجز فرنسا السياسي" في الجزائر. و في مذكرة ثانية في أوائل أكتوبر أعلنت عن رغبتها "في تعاون كلي مع الأمم المتحدة و أوضحت أن أي حل سلمي يجب التفاوض بشأنه بين الجبهة و فرنسا و أن اشتراك تونس و المغرب ضروري، و أن مؤتمرا من هاتين الدولتين مع فرنسا و الجبهة أمامه كل الفرص لخلق الظروف إلى تسوية سياسية سريعة للمشكلة الجزائرية". و أضافت أن التسوية السلمية لمشكلة الجزائر بطريق التفاوض يجب أن يرضي أماني الشعب الجزائري الحريص في الاستقلال و جبهة التحرير الوطني على استعداد "لبحث التعاون الحر بين فرنسا و دول شمال أفريقيا" (11). و في المناقشة التي دارت في الأمم المتحدة في نوفمبر و أوائل ديسمبر 1957 كانت الغلبة للاعتدال و للجبهة المغربية المتحدة. و كان ممثل تونس هو المتحدث الرسمي باسم الجبهة و كانت إستراتيجية الجبهة في تنسيق وثيق مع المجموعة الأفرو-آسيوية و لم تطلب الجبهة قرارا باستقلال الجزائر و بدلا من ذلك اقترحت مشروعا معتدلا يعترف بأن "مبدأ تقرير المصير قابل للتطبيق" على الشعب الجزائري، و دعت إلى مفاوضات من أجل حل يتفق مع ميثاق الأمم المتحدة. و قد عدل هذا القرار بطريقة تجعله أكثر إرضاء لفرنسا. و قبلت التعديلات بأغلبية صوت واحد و عندئذ رفض القرار من المجموعة الأفرو-آسيوية و من الكتلة الشرقية و قليل من الدول الأخرى بالاتفاق بينهما و لذلك لم تقدم اللجنة السياسية أية توصية إلى الجمعية العامة. و في 10 ديسمبر أصدرت الجمعية العامة قرارا وسطا تحيط فيه علما بفرض المساعي الحميدة التي تقدمت بها تونس و المغرب و تعرب عن "الرغبة في الدخول في محادثات بروح من التعاون الفعال و أن تستخدم الوسائل المناسبة الأخرى للوصول إلى حل يتفق مع أغراض ميثاق الأمم المتحدة و مبادئه". و في بيان رسمي صدر بعد المناقشة لاحظت الجبهة بالرضاء الموافقة على القرار وأعادت تأكيد رغبتها في إجراء مفاوضات بقصد الوصول إلى تسوية سلمية بما يتفق مع أغراض ومبادئ الميثاق و على الأساس الذي حدد في البيان المشترك الذي أصدره جلالة الملك محمد الخامس و صاحب الفخامة الحبيب بورقيبة رئيس الجمهورية التونسية (12). ولكن الجبهة استطاعت عن طريق التكتيك الذي اتبعته أن تعرف أصدقاءها الحقيقيين. و في أواخر شهر جانفي 1958 عادت الجبهة فوجهت إلى الأمين العام لهيئة الأمم المتحدة مذكرة لاحظت فيها أن فرنسا قد تجاهلت توصيات الجمعية العامة، و أنه فضلا عن ذلك قدمت الولايات المتحدة و صندوق النقد الدولي و اتحاد المدفوعات الأوروبي قروضا كبيرة إلى تلك الحكومة مما "يشكل اشتراكا في الحرب الاستعمارية في الجزائر" حيث ازدادت العمليات العسكرية شراسة في السنة الرابعة للثورة و خاصة على الحدود فقد لاقت نجاحا كبيرا في نقل الأسلحة و سارت قدما بالتدريج إلى عملية إعادة التنظيم العسكري و بخاصة إعادة تنظيم حالة الولايات و تحسين المواصلات (13). 5 ـ مؤتمر التضامن الأفرو-آسيوي: وفي الجبهة السياسية بحثت جبهة التحرير طرقا جديدة للحصول على المال و لزيادة الضغط على حكومة "دجيا رد". اشتركت الجبهة في مؤتمر التضامن الأفرو-آسيوي المنعقد في القاهرة. وحيا المؤتمر الوفد الجزائري وأصدر قرارا يدعو إلى الاعتراف فورا بالاستقلال، و المفاوضة بين فرنسا و الجبهة على هذا الأساس وإطلاق سراح الزعماء الخمسة المسجونين و دعا أيضا إلى المظاهرات و الحملات الصحفية و الجهود الأخرى لتعبئة الرأي العام العالمي لاستنكار السياسة الفرنسية وأوصى أن يكون الثلاثون من مارس يوم التضامن مع الجزائر و طلب تكوين لجان لتحرير الجزائر و تقديم المساعدة الفعالة للاجئين الجزائريين و ناشد المؤتمر حكومات البلاد الأفريقية و الآسيوية أن تدافع عن استقلال الجزائر في المنظمات الدولية و أن تحاول التأثير على فرنسا لإنهاء الحرب الجزائرية وعلى الحكومات الغربية الأخرى كي تكف عن مساعدة فرنسا ووافقت الجبهة على الاشتراك في الأمانة الدائمة للمؤتمر التي أ قيمت في القاهرة و عينت الدكتور أمين الدباغين ممثلا لها، و فاض جمع الأموال في مختلف الدول الأفرو-آسيوية في 30 مارس على خزائن الجبهة و سافر مندوبوها إلى عدد من البلدان للاشتراك في الاحتفالات (14). 6 ـ قذ ف قرية ساقية سيدي يوسف: في 8 فبراير 1958 قذف سلاح الجو الفرنسي قرية ساقية سيدي يوسف بتونس بالقنابل، و قد أدت الضربة العسكرية التي قبلت الحكومة الفرنسية مسؤوليتها إلى إدانة قوية من جانب دول كثيرة و قد قيل أن القذف بالقنابل كان موجها إلى الثوار الجزائريين الذين اتخذوا من القرية قاعدة لهم. و بالرغم من أنه لم يوجد ثوار بين السبعين من القتلى فقد لفتت الحادثة انتباه العالم إلى موضوع يتزايد منذ سنة 1956 و هو دور تونس في الحرب الجزائرية. فمنذ استقلالها في شهر مارس من سنة 1956 أخذت الحكومة التونسية تسير على حبل مشدود بين فرنسا و الجزائر بين الحياد والاشتراك في الحرب و عواطف تونس مع الشعب الجزائري تماما في النزاع و لكن الدولة ترغب أيضا في الحصول على المساعدة الاقتصادية الفرنسية كما أن الرئيس بورقيبة ميال بإخلاص للغرب (15). 7 ـ الضغوط المغربية: منذ بلغ المغرب استقلاله في 2 مارس 1956، و تونس في 20 مارس 1956، وجدت جبهة التحرير الوطني نفسها إزاء مأ زق. إما ضمان قواعد خلفية للاعتماد على شعبي هذين البلدين عن طريق إدخال التحالف مع خصوم أي تسوية مع الإمبريالية في إستراتيجيتها أو القبول بالحكومتين القائمتين كمحاورتين. أدى ذلك إلى تخلي المقاومة المغربية على التعهد الذي كانت قد قطعته على نفسها بألا تلقي السلاح حتى استقلال الجزائر و هزيمة صالح بن يوسف أمام بورقيبة إلى التغلب على مقاومة النزعة المغربية المبلبلة لقادة جبهة التحرير الذين حزموا أمرهم و إن كان على مضض على التضحية بها لصالح الأهداف العاجلة . كان عام 1956 عام الآمال الكبرى في المغرب. كان التونسيون و المغاربة يستقبلون اللاجئين و يسمحون لهم بعبور الأسلحة و الذخيرة و يقبلون باستخدام أراضيهم كقواعد هجوم و انسحاب لفصائل الثورة بحيث كانوا يعتقدون بحل قريب للمشكلة الجزائرية. لكن خطف الطائرة الملكية المغربية في أكتوبر 1956 التي كانت تنقل قادة جبهة التحرير الوطني للمشاركة في مؤتمر تداولي مغربي أثبتت أن الحرب الفرنسية الجزائرية طويلة المدى. وبدأت التباينات في المصالح بين الشركاء المغاربة تظهر جهارا دون أن يستبعد ذلك التضامن استبعادا كاملا (16).كانت المشكلة لجبهة التحرير الوطني تتمثل في توفير وسائل مواصلة الكفاح و اختيار حلفائها و إرساء إشرافها على الهجرة الجزائرية و التصرف بحرية كاملة بالقواعد الخلفية في تونس و المغرب. أما تونس و المغرب فكان تأ بيد سيادتهما و توطيد دعائم الدولة فيهما هما الاهتمامان الأساسيان بالنسبة إليهما و الحال أن حرب الجزائر كانت تهدد في حال إطالة أمدها بامتداد النزاع إلى أراضيهما مع ما يرافق من تشجيع لنمو قواعد اجتماعية ثورية و سوف يمارس الحكام التونسيون و المغاربة ضغوطهم على جبهة التحرير في عدة اتجاهات، إعادة دمج جبهة التحرير في إطار مغاربي و قطعها عن مصر، إجبارها على إعادة ترتيب أهدافها من الحرب و الإشراف بدقة على قواتها العسكرية و تسوية المشكلات الحدودية مع الجزائر قبل بلوغها الاستقلال و قد ظهرت هذه الأهداف خلال مؤتمر طنجة الداولي (27-30) أبريل 1958 و مؤتمر تونس 16 جوان 1958 و بمناسبة حوادث حقيقية أو مصطنعة وقعت على الحدود مع جيش التحرير الوطني (17).8ـ حوادث هامة في حياة الثورة سنة 1958: ودعت الثورة سنة 1957 كما ودعت سنوات قبلها بانتصاراتها و انكساراتها. ففي هذه السنة ظهرت حوادث هامة. ففي شهر فبراير 1958 قررت لجنة التنسيق و التنفيذ إقامة حكومة جزائرية مؤقتة في المنفى و في منتصف شهر أبريل اشتركت جبهة التحرير الوطني في مؤتمر الدول الأفريقية المنعقد في "آكرا عاصمة غانا" و تلقت تأييدها الحار من أجل استقلال الجزائر و عرض الأفريقيون التأييد الدبلوماسي بما في ذلك تأليف وفد أفريقي متنقل لشرح قضية الجزائر. و في جوان 1958 طالبت الجبهة الدول الأفريقية بمساعدتها في عرض قضيتها أمام الجمعية العامة التابعة للأمم المتحدة. و في أواخر شهر أوت ذهبت وفود أفريقية كثيرة إلى أوروبا و أمريكا اللاتينية لإطلاع حكومات و شعوب هذه البلدان على الموقف السياسي بالجزائر و السعي على كسب و تأييد هذه الحكومات (18). و في نهاية أبريل من نفس السنة بدأت وحدة دول المغرب التي سعت الجبهة إليها طويلا حتى جاء مؤتمر طنجة الداولي الذي انعقد فيما بين (27 - 30) أبريل 1958 الذي دعا إليه حزبا الاستقلال المغربي و الدستور التونسي بعد شهرين من قصف الجيش الفرنسي ساقية سيدي يوسف التونسية. و كان الحزم الذي أبداه الرئيس الحبيب بورقيبة بمناسبة الأزمة مع فرنسا برفضه أي تحديد لحدود بلاده رفع تحفظات العسكريين الجزائريين تجاهه و انتقاداتهم له. كان الهدف من المؤتمر هو توطيد التضامن المغربي و قد وافقت الأطراف الثلاثة على سلسلة من القرارات منها "حق الشعب الجزائري الثابت في السيادة و الاستقلال بوصفه الشرط الوحيد لفض النزاع الفرنسي الجزائري" و بجلاء القوات الفرنسية التي شاركت في الحرب انطلاقا من البلدين و بإرساء مؤسسات مشتركة. كما أوصى المؤتمر "بعد إجراء المشاورات بين حكومتي تونس و المغرب بإقامة حكومة جزائرية" (19). و كانت الجبهة قد حصلت على موافقة البلدين كما اقترح المؤتمر إنشاء جمعية استشارية مغربية تعقد اجتماعات دورية و تدرس و تقدم توصيات للحكومات في المسائل ذات المصلحة المشتركة، و أوصى بأن يعقد زعماء البلدان الثلاثة اجتماعات لدراسة و بحث تنفيذ توصيات اللجنة الاستشارية و مما له أهمية أن الأحزاب المجتمعة في طنجة أوصت حكوماتها "ألا تربط على انفراد مصير شمال أفريقيا في حقل العلاقات الخارجية و الدفاع إلى أن تتم إقامة النظم الاتحادية" و كان هذا قرارا هاما على الخصوص للجبهة التي لم يكن لها مركز حكومي قانوني فهو يخول لها الحق في أن تستشار في علاقات شمال أفريقيا بالدول الأخرى و خاصة فرنسا و كون المؤتمر كتابة تتكون من ستة أعضاء اثنان منهم يحتلان كلا من المنظمات المشتركة في المؤتمر و لهما مكتبان أحدهما في الرباط و الآخر في مدينة تونس و عينت الجبهة اثنين من الزعماء السابقين هما "احمد بومنجل" و "احمد فرنسيس" لتمثيلها في الكتابة. ووجه المؤتمر نداء جديا و عاجلا يناشد فيه هذه الدول أن تضع حدا لكل مساعدة سياسية أو مادية يقصد بها مساعدة الحرب الاستعمارية في المغرب العربي و حيت الجبهة بحماسة قرارات طنجة (20). وفي منتصف جوان 1958 اجتمعت الحكومتان التونسية و المغربية و لجنة التنسيق و التنفيذ في المهدية بتونس من اجل توصيات مؤتمر طنجة و نوقش موضوع التعاون السياسي و الدبلوماسي و لكن أرجى تشكيل الحكومة الجزائرية و برغم هذا أعاد المؤتمرون تأكيد حق الشعب الجزائري في السيادة و الاستقلال (21). و في شهر أوت فتحت جبهة التحرير الوطني جبهة ثانية في فرنسا ذاتها و حدثت سلسلة من الهجمات الرائعة ضد المنشآت العسكرية و البوليسية و الأهداف الاقتصادية بما في ذلك خزانات البترول الرمزية، كانت شاهدا على أن للجبهة قوة لها اعتبارها على ارض فرنسا ذاتها. و في 19 من شهر سبتمبر أعلن المجلس الوطني للثورة الجزائرية في القاهرة و الرباط و تونس تشكيل حكومة مؤقتة للجمهورية الجزائرية يتولى فيها "فرحات عباس" رئاسة الوزارة. و قد هيأ تأليف الحكومة دفعة قوية لروح القتال و ارتفعت معنويات المجاهدين حيث تحققت الشرعية و بدا أن الجدل الذي كان دائرا حول الصفة التمثيلية للجبهة قد حل على نحو ما. و قد تجاهلت حكومة "ديجول" الفرنسية الرمز الجديد للسلطة الجزائرية، و في أوائل سنة 1959 كانت الحكومات العربية و الشيوعية هي التي اعترفت بالحكومة المؤقتة (22).و بإعلان استقلال الجزائر الذي أذيع في القاهرة يوم 19 سبتمبر 1958 حيث رحبت اندونيسيا ترحيبا بقيام الحكومة الجديدة و قالت "أن الحكومة الاندونيسية تؤمن بأن ميثاق الأمم المتحدة و مبادئ مؤتمر باندونغ العشرة ستفتح مجالا للدولتين و هما الجزائر و فرنسا لتعيدا علاقتهما التي كانت قائمة على أسس استعمارية إلى علاقة بين دولتين مستقلتين تقوم على مبادئ القانون الدولي و العرف الدولي". إن قرار الحكومة الاندونيسية بالاعتراف بحكومة الجزائر المؤقتة يتفق مع رغبة الشعب الاندونيسي المناهض للاستعمار كما يتفق مع سياسة الحياد الايجابي التي تتمسك بها اندونيسيا (23).و تلقي رئيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية من وزير الشؤون الخارجية اللبناني "يسرني أن أؤكد لدولتكم مضمون البرقية التي تشرفت بإرسالها لكم لإبلاغكم اعتراف لبنان بحكومة الجزائر المؤقتة و هذا نصها: قررت الحكومة اللبنانية اليوم الاعتراف قانونيا بحكومة الجزائر المؤقتة".و أما البلد العربي الثاني فكان ليبيا. و قد جاء في وثيقة الاعتراف الصادرة عن بنغازي بتاريخ 19 من سبتمبر 1958 و الموشحة بتوقيع السيد عبد المجيد كبار رئيس الوزراء و وزير خارجية ليبيا:" يسعدني جدا أن أبادر بإبلاغ سيادتكم قرار الحكومة الليبية بالاعتراف بحكومة الجزائر كحكومة شرعية للشعب الجزائري المجاهد" (24). أما الدول العربية الباقية "تونس، و المغرب، و الجمهورية العربية المتحدة، و السودان والعربية السعودية، والعراق، والأردن، واليمن" فقد اعترفت بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية دون بيان طبيعة هذا الاعتراف. إلا أن هذا الاعتراف لا يمكن أن يكون إلا بشرعية الحكومة. إذ لو أريد أن يقترن بتحفظ لما خلا منه (25) و فضلا عن هذا فإن مئات التصاريح الرسمية التي صدرت عن رجال السياسة العربية بمختلف المناسبات قد أكدت رغبة هذه البلاد في اعتبار الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية "حكومة شقيقة، و أنها دون سواها هي الحكومة الشرعية المشروعة و المحقة" (26). الخاتمة ثورة نوفمبر قادتها عناصر وطنية تنتمي إلى الفلاحين والعمال، ولا تنتمي إلى نخبة المثقفين أو البرجوازيين الثائرين على الفساد السياسي الموجود بالبلاد، ففي الجزائر كان العمل الثوري سبق التنظير السياسي بحيث أن قادة الثورة كانوا من الوطنيين المتشبعين بفكرة الثورة على الظلم والاضطهاد تحت النظام الاستعماري، أما المثقفون القليلون الذين صعدوا إلى مركز القيادة في الثورة انضموا إليها بعد أن رأوا فعالية وسلامة اتجاه التيار الثوري.